عربى و دولىغير مصنف

ذكريات حرب اكتوبر الجزء الأول دكتور اسامه حمدى

شهادة للتاريخ والذاكرة الممسوحة

المقال الأول
في سلسلة الطريق الى اكتوبر: شهادة للتاريخ والذاكرة الممسوحة…!!!
“أعظم ثلاث سنوات في تاريخنا الحديث”
كمؤرخ محايد -أو هكذا أظن- كتبت خمسة مقالات عن حرب اكتوبر ١٩٧٣ تمثل شهادتي على التاريخ الذي شوهه الكثيرون عن عمد أو جهل، ولكن أمانة الكلمة تجعل في رقبتي ورقبة كل من عاصر هذه الأحداث أن يكتب شهادته حتى يقرأها بإمعان اجيالنا الحالية والقادمة، وخاصة التي لم تحضر هذه الفترة المجيدة من تاريخنا، لتعرفها بدون رتوش أو تزويق. وشهادتي على التاريخ تغطي الفترة من ١١ يونيو ١٩٦٧ أى بعد الهزيمة المريرة الى وقف اطلاق النار في ١٩٧٣. في الحقيقة لا أعرف حقًا من منكم بإستطاعته قراءة الأجزاء الخمسة كاملة بعد أن تعودنا على قراءة المقالات التلغرافية، ولكن أؤكد لك صديقي العزيز أنك لن تندم إن قررت قراءتها منفصلة أو مجتمعة، وسأنشرهم تباعًا كل يوم.
لقد تمنيت في المقال الأول أن أكتب عن حرب الاستنزاف، ومنذ فترة طويلة، ولكن أردت أولًا التحقق من جميع مصادرة لإنه يؤرخ لفترة من أروع صفحات تاريخنا المصري والتى طويناها كأنها لم تكن، فجهلها أجيال وأجيال؛ خاصة من أبنائنا وأحفادنا، لذا أتمنى أن تصبر على قراءته، فهو محاول مني لاستعادة الذاكرة الممسوحة عمدًا عن الطريق الى أكتوبر.
…………
كانت نكسة ١٩٦٧ جرحًا عميقًا للكبرياء المصري. فلقد أحتلت سيناء بأكملها، وأُغلقت قناة السويس، ودُمر الطيران المصري على الارض، وأستشهد الآلاف قبل أن يقاتلوا، وشَمَت فينا القريب من العرب، قبل الغريب من الغرب. وإنكسر خيلاء عبد الناصر وتنحى. فقد كانت طبول المعركة أعلى من قدرتنا على فهم الواقع، وإدراك الخديعة التي حاكها الغرب والشرق بإبداع؛ وذلك حينما طلبوا -بل وهددوا- عبد الناصر بعدم القيام بالضربة الأولى حتى لا يخسر تأييد العالم ،بل ونصحه السوڤيت بالرضوخ لرغبة الأمريكان بتلقي الضربة الأولى، والتي كانت القاضية والأخيرة. قال البعض أننا لم نكن مستعدين للحرب وصدقناهم، وقال آخرون أن قيادات الجيش لم تكن على قدر المسئولية والتدريب، وإدعى آخرون أننا لم نكن نملك أى خطة للحرب ويقودنا رئيس مغرور أهوج. فمن السهل نعت المهزوم بأى صفة تريدها، وسيصدقك الجميع في الحال، فالمهزوم لا يملك حتى حق الدفاع والتبرير ، والتاريخ عادة ما يكتبه المنتصرون، وبالتأكيد لا داعٍ عنده من تزيين الإنتصار، وإضافة هالات من الزهو والثناء على عبقرية المنتصر، وبطولاته، فلا صوت، ولا حق، ولا تعاطف مع المهزوم.
…………
ولكن ما لا يعرفه الكثيرون من الجيل الحالي أن السنوات الثلاث التى تلت الهزيمة كانت من أروع ملاحم نضال الشعب المصري، بل أروعها على الإطلاق في العصر الحديث، والتي أظهرت بوضوح معدن شعبنا الأصيل الذي لا يبرق ويزداد لمعانًا إلا في وقت الشدائد. كانت هذه الفترة التى عشتها صغيرًا الأتون الذي شكَّل إحساسي الوطني وإحساس جيلي معي وزرع فينا حب مصر وعشق ترابها وأثبت لنا أنه يمكنك دائمًا الرهان على قدرة الانسان المصري في وقت الشدائد ولن تخسر أبدًا مهما بدى الأمل خافتًا.
…………
بدأت هذه الفترة بتمسك الشعب بعد الهزيمة بقائده والتى صورها المغرضون على أنها مسرحية ولكني رأيت بعيني الملايين في كل شوارع مصر وهى ترفض الهزيمة وتتمسك بزعيمها. تلتها سريعًا خطة لإعادة تماسك الجيش فقد صمم الجميع على شئ واحد وهو ألا يهنأ العدو بسيناء التى إغتصبها وإستنزافه طالما قرر البقاء على أرضنا مع إنتظار الفرصة للانتقام من المعتدي وغسل العار والذي هو من الطبيعة الأصيلة في الشعب المصري.
…………
قبل نهاية يونيو أصدرت القيادة أوامرها بعدم الارتداد للخلف، وفضل المقاتل المصري الموت دفاعًا عن أرضه بدلًا من وصمه بالعار مع تنظيم خطوط الدفاع بما تبقي من جيشه وهو ١٠٠ دبابة و١٥٠ مدفع وعدة طائرات. وبدأت حرب الألف يوم بمرحلة الصمود والتي رأينا فيها قوات الصاعقة تصد باستماته مدرعات العدو التى حاولت إحتلال مدينة بورفؤاد في ١ يوليو ١٩٦٧ وهى المعركة التى أطلق عليها معركة رأس العش. وفِي نفس الْيَوْم أطلقت المدفعية نيرانها بشراسة على سيناء. تلتها إغارة ما تبقى من طائراتنا على مواقع العدو في سيناء يوم ٤ يوليو. وشملت مرحلة الصمود المعارك الجوية في ١٤ و١٥ يوليو والتى كبدت العدو خسائر فادحة وأعادت بعض الثقة في قدرة قواتنا. ثم معركة المدفعية في ٢٠ سبتمبر التى دمرت الكثير من مدرعات العدو وقتلت ٢٥ وجرحت حوالي ٥٠٠. ثم تدمير المدمرة إيلات في ٢١ أكتوبر وهى من أضخم القطع البحرية في أسطول العدو مع خسارة فادحة في الأرواح. كما قام القناصون المهرة بإصياد جنود العدو من أبراج المراقبة. كما أفشلت القوات البرية والبحرية عمليات الانزال في منطقة القناة ودمرت للمعتدي ٨ طائرات و٨ زوارق و٥٤ دبابة ومدرعة وخسائر ضخمة في الأرواح. ورد العدو بالاغارة على الأهداف المدنية والمصانع. واستمرت مرحلة الصمود بتراشق شبه يومي وكمائن غير متوقعة للعدو في الضفة الشرقية وخطف أسري وأسلحة حتى يونيو ١٩٦٨. لم يصدق العدو ما يراه من هذا الصمود الغير متوقع. وساعدنا العرب بالمال لتعويض خسائرنا العسكرية وتحديثها ففي نهاية ١٩٦٧ إستعاد الجيش ٥٠٪‏ من قدرته قبل الحرب.
…………
تلت مرحلة الصمود مرحلة الدفاع النشط والمواجهة حين قال عبد الناصر أن “ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة”. وكان ٨ سبتمبر ١٩٦٨ يوما تاريخيًا حيث قصفت المدفعية جميع خطوط العدو بدون إنقطاع حتى عمق ٢٠ كيلو متر من الضفة الشرقية فدمرت العديد من مواقع الصواريخ والدشم والمواقع الإدارية التي تشرف على إنشاء خط بارليف. وتكرر القصف المركز يوم ٢٦ أكتوبر والذي دمرت فيه العديد من مواقع الصواريخ كما وقع العديد من الدبابات الهاربة في كمائن قاتله. لقد بدى واضحًا تفوق المصريين مما حذى بالعدو لتوسيع جبة القتال بقصف مصنع نجح حمادي في جنوب مصر ومحولات السد العالي حتى يثور الشعب على قائده. بدأ الشعب بأكمله فى تأمين نفسه من غارات العدو الهوجاء ضد المدنيين وأتذكر ونحن ندهن زجاج نوافذنا باللون الأزرق ونضع أكياس الرمال أمام مداخل بيوتنا ويبني الكبار حوائط بالطوب الأحمر أمام بوابات العمارات.
…………
كانت المرحلة الثالثة من أعظم وأخطر المراحل وسميت مرحلة الاستنزاف والتحدي والردع وبدأت كما كان محددًا لها في فبراير ١٩٦٩. وكان يوم ٨ مارس يومًا مشهودا حيث قامت ٣٤ كتبية مدفعية بإمطار العدو بحوالي ٤٠ ألف قذيفة دمرت فيها ٣٠ دشمة في خط بارليف و٢٩ دبابة و٢٠ بطارية مدفعية وهى المعركة التى أستشهد فيها الفريق عبد المنعم رياض وبعض القادة. تلتها في ١٣ مارس وما بعدها إسقاط متكرر للصاعقة ليلا خلف خطوط العدو لتدمير عشرات المواقع وأسر العديد من جنود العدو والعودة بهم. وفِي ١٧ أبريل نفذ الجيش عملية أسماها هدير حيث قصفت المدفعية المتفوقة والدبابات بتركيز شديد جميع فتحات المراقبة والدشم على طول خط بارليف وقتل فيها المئات من الجنود المتحصنين داخلها. وكالعادة رد العدو بقصف محولات نجح حمادي للمرة الثانية ومنطقة إدفو وقتل المدنيين. فكان الرد من القوات الخاصة بقيادة الشهيد ابراهيم الرفاعي في ٨ يوليو ١٩٦٩ والتى قتلت في يوم واحد ٣٠ جنديا تلتها غارة مميته في ١١ يوليو قتلت وجرحت ٤٠ فردًا ودمرت العديد من الدبابات والدشم دون خسائر كبيرة في صفوف جيشنا الباسل. نفذ بعدها طيران العدو العديد من الغارات في محاولات مستميتة لوقف هؤلاء الأبطال دون جدوى فقد دمر جنودنا طريق شرم الشيخ وأغارت القوات الخاصة في ٣٠ نوفمبر على موقع شمال الشط وقتلت وأصابت سبعون وفِي ٦ ديسمبر إستعادت القوات نقطة هامة شرق القناة ووضعت العلم المصري عليها قبل أن يصدر لها قرارًا بالعودة. لقد كسر جيشنا الحاجز النفسي تمامًا والذي سببته الهزيمة في يونيو فقبل نهاية العام كان الجيش قد قام بحوالي ٢٩٠٠ طلعة جوية من ١١٠ طائرة في مقابل ٣٥٠٠ من ١٣٠ طائرة ودخل في ٢٢ معركة جوية وقام بحوالي ٤٤ عملية برية إستشهد فيها ١٦ ضابطا و١٥٠ من الجنود في مقابل ١٣٣ قتيل و٣٢٠ جريح من قوات العدو. أصبح العدو لا يغمض له طرفة عين وهو لا يعرف من أين يأتيه الموت ليلًا أو نهارًا.
…………
تحولت المعارك الشرسة تحولا خطيرا في ١٩٧٠ حين حصل العدو على طائرات الفانتوم وبدأ بالإغارة على القاهرة وإحداث فرقعات شديدة في سمائها لارهاب الشعب تلاها قصف مصنع أبو زعبل وقتل سبعين عاملًا وقصف مدرسة الأطفال في بحر البقر. فرد جيشنا ردا قاسيًا على هذة المذابح بالعديد من الكمائن من قوات الصاعقة في الضفة الشرقية والتى أسرت العشرات وقنصت وقتلت العديد من الجنود العائدين من أجازاتهم. ثم تحولت المعارك تحولًا جذريًا في ٣٠ يونيو ١٩٧٠ بعد أن إكتمل حائط الصواريخ في زمن قياسي لا يتعدي أربعون يومًا تحت القصف الشديد وببطولة خارقة للمهندسين العسكريين المصريين. وكانت أولى بشائره سقوط ٢٤ طائرة في أسبوع واحد من ٣٠ يونيو الى ٧ يوليو منهم ١٢ طائرة فانتوم وقد سمى بأسبوع تساقط الفانتوم وقبل نهاية شهر يوليو كانت حصيلة قوات الدفاع الجوي وحائط الصواريخ ٥٤ طائرة مما جعل من المستحيل على طيران العدو حتى التفكير في الاقتراب من الشاطئ الغربي للقناة. أصاب العدو الرعب بعد أن شُل ذراعه الجوي تمامًا وبات واضحًا أنه لو خاضت مصر حربًا في ١٩٧٠ فستنتصر دون محالة. سعى العدو بكل قوة لإنهاء المجزرة التى يعيشها على أيدي أبطالنا فتوسطت له أمريكا في إنهاء حرب الاستنزاف ووافقت مصر أخيرًا على مبادرة وزير الخارجية وليم روجرز بعد أنهكت العدو تمامًا ماديًا ونفسيًا. تحركت بعد المبادرة حوائط الصواريخ لتقترب من القناة وتشكل العامل الاول والحاسم في معركة الانتصار في ٧٣ لتمكن جيشنا من بناء المعابر دون أدني خطر من طيران العدو. حين انتهت حرب الاستنزاف قال العدو أنه خسر أربعين طيارا و٨٢٧ قتيل من القوات البرية و ٣١٤١ ما بين جريح وأسير. وفي المجال الاقتصادي زاد حجم الانفاق العسكري بما مقداره ٣٠٠ في المائة.
…………
لقد أثبتت حرب الاستنزاف معدن الشعب المصري الصلد الذي قد ينجرح مرة ولكن لا يموت أبدًا. كانت حرب الألف يوم مؤشرًا هامًا لقدرتنا على حسم المعركة إن إنطلق نفيرها وكان موت عبد الناصر العامل الوحيد المُؤخِر ليوم الحسم الذي جاء في العاشر من رمضان بعد ثلاث سنوات قضيناها ونحن نعد الأيام ببطء ليوم الثأر. لا أصدق أن أكثر من ٥٥ عامًا مرت على نهاية حرب الاستنزاف التى أظهرت جوهر الانسان المصري الحقيقي. ربما لا يتذكر الكثيرون ما حدث بين ١٩٦٧ و١٩٧٣ لذا أردت هنا أن ذكره. ولقد سردت ذلك الحديث المطول لتعرف أجيال الشباب الحالي صفحات مشرقة من البطولة خاضها آباؤهم المصريون بحب لبلدهم وترابها الغالي. فالمصري إنسان ذو إرادة حديدية ومعدن لا يصدأ أبدًا. أتمنى أن أكون قد نجحت في إستعادة بعض الذاكرة التى مسحها الكثيرون عمدًا من تاريخنا العظيم.
د. أسامة حمدي
الى اللقاء في المقال الثاني
(شارك مع كل من يحب أن يقرأ عن تاريخ مصر وخاصة الشباب)
تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى