عربى و دولى

ذكريات حرب اكتوبر الجزء الرابع دكتور اسامه حمدى

شهادة للتاريخ والذاكرة الممسوحة…!!!

المقال الرابع
في سلسلة الطريق الى اكتوبر: شهادة للتاريخ والذاكرة الممسوحة…!!!
“الشهيد السادات بين الدهاء السياسي والتدخل العسكري!”
الشهيد السادات داهية سياسية -بلا شك- ورجل مناورات من الطراز الأول، وكان -رحمه الله- يمتاز بشخصيته القوية والمؤثرة كصانع قرار، وينسب إليه الفضل الأكبر في التمويه عن توقيت حرب أكتوبر المجيدة، ويستحق -بلا أدنى شك- كل التقدير والإعجاب في اتخاذ قرار الحرب الصعب والشجاع بعد حالة اللا سلم واللا حرب التي عشناها ثلاث سنوات أصابت الجميع باليأس شبه التام في استعادة الأرض المسلوبة.
……….
موقف السادات كان شائكًا، فهو لا يثق بالسوڤيت كظهير له، ولا يريد معاداة الولايات المتحدة حتى لا يلقى المصير البائس الذي تجرعه عبد الناصر. كما أنه كان مترددًا في خوض حرب ربما تُنهي مصيره السياسي إن فشل فيها كما فشل عبد الناصر من قبل في ١٩٦٧ بمعاداته للأمريكان، كما أنه لم يكن يتمتع قبل ١٩٧٣ بشعبية عبد الناصر الجارفة، كما أن علاقته بعبد الناصر كانت غامضة على الكثيرين بعد أن اعتقل معظم رجال عبد الناصر في مايو ١٩٧١، وأنهى عمل الخبراء السوڤيت قبل حرب ١٩٧٣؛ لذا حاول مرارًا أن ينهي الأمور على نحو سلمي في الفترة من أكتوبر ٧٠ حتى قبل موعد الحرب بأشهر قليلة. وما زاد الأمور تعقيدًا هو ضغط الجيش العارم، ورغبته في الثأر واسترداد الكرامة، والزخم الشعبي الكبير لإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب، وقد ظهر ذلك جليًا في مظاهرات الطلاب واعتصامهم في يناير ١٩٧٢.
…….
ولكن رغم دهاء السادات السياسي الذي لا ينكره أحد، والذي كان له الفضل الأكبر في مفاجأة العدو في ٦ اكتوبر ١٩٧٣، فإن خبرته العسكرية كانت محدودة، وتدخلاته في الشأن العسكري في أسابيع الحرب الأولى كادت تحول انتصار ٧٣ -لولا رحمة الله- إلى كارثة مفجعة تضاف إلى نكسة ٦٧، أو ربما تفوقها. فبعد بداية الحرب اتخذ السادات -بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة- كثيرًا من القرارات الكارثية، وسط ذهول قادته العسكريين ورفضهم.
……..
١- في صبيحة يوم السابع من أكتوبر اتصل السادات بهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، ليخبره أنه يشنّ حربًا محدودة لا يريد تطويرها، وهدفها تحريك الوضع، وهذا ما ذكره كيسنجر في حديث أمريكي متلفز! وما فعله السادات أدهش القادة العسكريين، وعلق عليه سلبيًا المشير الجمسي، الذي كان قائدًا لغرفة العمليات العسكرية وقت المعركة؛ فنيّاتك كقائد لا يجب أن تصل إلى عدوك على طبق من ذهب بهذا الوضوح، خاصة في ذلك الوقت المبكر!
……..
٢- رفض السادات رفضًا مطلقًا وقف إطلاق النار يوم ٨ أكتوبر، وكانت القوات المصرية آنذاك في أفضل حالاتها بعد العبور، وإتمام المعابر، وتدمير معظم نقاط خط بارليف المنيعة، والنجاح التام في صد الهجوم المضاد ببراعة، تحت غطاء كامل من نيران حائط الصواريخ والمدفعية والسلاح الجوي، وكان وقف إطلاق النار عند هذه اللحظة -كما أجمع الخبراء- يعطي مصر أفضل الفرص للتفاوض من موقع القوة، وزهوة الانتصار، وهو ما كان أصلًا في خطة السادات منذ البداية. كما أن قبول وقف إطلاق النار في هذا التوقيت المهم كان من المكن أن يحقن دماء أبنائنا؛ فخسائرنا وقتئذٍ كانت محدودة، كما أنه كان يعطينا ميزة كبيرة في التفاوض على العدد الضخم من الأسرى لدينا.
……..
٣- اتخذ السادات القرار الثالث الخاطئ والكارثي بتطوير الهجوم خارج نطاق حائط الصواريخ الذي يمتد إلى ٢٥ كيلو مترًا من القناة لتخفيف الضغط على الجبهة السورية التي استغاثت به، رغم تحذير ورفض قادة الجيش الميدانيين ورئيس الأركان؛ مما نتج عنه تدمير ٢٤٠ دبابة مصرية في ٥ ساعات فقط، وإضعاف الجبهة الأمامية، لتحدث بعد ذلك ثغرة “الدفرسوار” من المنطقة التي حددها بدقة واضعو خطة الحرب في عهد الفريق محمد فوزي، وكانوا قد وضعوا الخطط المسبقة لتفاديها، وكانت سبب خلاف كبير بين السادات ورئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي.
……..
٤- كان القرار الرابع والخاطئ هو رفض اقتراح رئيس الأركان انسحاب بعض القوات التي تحركت بحجة سياسية إلى الأمام؛ وذلك لسد الثغرة والقضاء عليها، وحماية ظهر الجيشين الثاني والثالث، وربما كان ذلك لخوفه الشديد من فكرة الانسحاب وتبعاتها السلبية، والعقدة النفسية لانسحاب ٦٧، ولكن الأكثر غرابة هو استهانته المستمرة بالثغرة، وحجمها وتأثيرها، مما نتج عنه اتساعها، والإحاطة بالجيش الثالث بكامله، وقطع الإمدادات عنه، والإنذار بهلاكه التام، حتى إن الجيش المعادي تقدم كثيرًا في اتجاه القاهرة حتى الكيلو ١٠١! قال كيسنجر في حديث متلفز إنه تقديرًا لموقف السادات في أول الحرب، ضغط على العدو للسماح بوصول الإمدادات للجيش الثالث حتى لا تكون كارثة.
……..
كانت خطة العدو بعدما وصلت إليه الإمدادات العسكرية الكثيفة، خاصة الطائرات الحديثة، هي تكرار ما فعله في ١٩٦٧ من تدمير للمطارات المصرية تمهيدًا للقصف جوًا على القوات البرية، وإنهاء المعركة لصالحه، ولكن بطولة رجال القوات الجوية في معركة المنصورة الخالدة، بقيادة اللواء أحمد عبد الرحمن نصر، في ١٤ أكتوبر، وصدهم الهجوم الشرس بـ١٦٠ طائرة مُغيرة على ثلاث دفعات لتدمير أكبر مطارات مصر العسكرية في “شاوة”، منعهم من تحقيق غايتهم. ولولا صمود رجال الصاعقة الأبطال الذين حاولوا باستماتة وقف دخول العدو مدينة الإسماعيلية لتطويق الجيش الثاني أيضًا، لكان للحرب نتائج كارثية ووخيمة!
……..
لقد استصرخ السادات، بعد أن وجد نفسه في مأزق عسكري وسياسي، القوتين العظميين، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لوقف إطلاق النار بعدما رفض عروضهما مرتين من قبل وهو في أوج انتصاره، وبرر ذلك بأنه ليس على استعداد لمحاربة أمريكا -وهو صحيح- رغم تحرك قوات روسية لمساندته.
……..
لقد تكلم معظم أبطال حرب أكتوبر عن أخطاء السادات العسكرية، وكشفوا أنه رغم دهائه في التمويه بنجاح عن موعد بدء الحرب، فإن خبرته العسكرية كانت محدودة، وقال أحدهم إنه جرت الأعراف العسكرية أن قرار القائد الأعلى حين يصل إلى القادة الميدانيين عليهم القول بنعم، أو “لا”، بشأن إمكانية تطبيقه، وذلك من واقع إحاطتهم بالأمر على الأرض، فإن قالوا “لا” فعلى القيادة السياسية الاستماع إليهم فورًا، “فكلمة “لا…تعني لا” في العرف العسكري، وإلا أصبحت كارثة، لكن السادات أصر على قراراته العسكرية الخاطئة ووافقه مع الأسف المشير أحمد إسماعيل من باب إطاعة الأوامر، في حين اعترض كثير من القادة، خاصة رئيس الأركان، الذي أقاله السادات لاحقًا. لقد حاول الرئيس السابق المرحوم حسني مبارك، وهو بلا شك أحد أبطال حرب أكتوبر العظام، الدفاع عن السادات، وذكر أنه كان يتحدث مباشرةً إلى السادات، دون علم رئيس الأركان -وهو ما لا يعقل- وأنه قام بالقصف المركز للثغرة، والجميع ممن عاصر الأحداث يعلم جيدًا أن معارك الثغرة كانت بالمشاة والمدرعات فقط، ولم تكن بالطيران! ولكن هذا رأيه، وهو من حقه رحمه الله، ولكن غيره من القادة كتبوا مذكراتهم للتاريخ، وهي لا تتطابق مطلقًا مع روايته.
………
لقد حمى لله وحده مصر، وأبقى لنا نصر أكتوبر المجيد لنعتز به، ونمجد هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بحياتهم دفاعًا عن الوطن واستردادًا لكرامته، ونترحم على الشهداء العظام، وأولهم السادات صاحب قرار الحرب الجرئ. أتمنى أن نكون صادقين مع أنفسنا في رواية التاريخ حتى لا نظلم أولادنا وأحفادنا. رحم الله الشهيد السادات بما له وما عليه، بطلًا للحرب والسلام، وألهم كل من خلفه هبة الاستماع والإصغاء التام لنصيحة الخبراء، خاصة في القرارات المصيرية؛ فلكل إنسان قدرته في العلم والمعرفة.
د. أسامة حمدي
الى اللقاء في المقال الخامس
(شارك مع كل من يحب أن يقرأ عن تاريخ مصر وخاصة الشباب)
تم نسخ الرابط بنجاح!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى