
المقال الثاني
في سلسلة الطريق الى اكتوبر: شهادة للتاريخ والذاكرة الممسوحة…!!!
“مهندس اكتوبر الحقيقي الذي نسيناه عمدًا أو جهلًا”….!”
لهذا الرجل الفضل الكبير في إنتصار أكتوبر العظيم ولولا ما قام به على مدار أربع سنوات إلا شهرًا ما كنا لنحتفل اليوم بهذا الانتصار الكبير ولكن القدر أودعه سجن القلعة ثم مسحنا تاريخه بالكامل عن عمد ثم عن جهل فجهلته أجيال لم تعرف الا ما روى لها وبالطبع لم يذكر فيها اسمه.
…………
فقد كانت كارثة ١٩٦٧ هزيمة عسكرية مريرة دُمر فيها في ساعات ٨٥٪ من سلاحنا الجوي وإستشهد فيها حوالي ١٠ آلاف جندي وضابط نتيجة لقرار الانسحاب العشوائي الذي أصدره القائد العام للقوات المسلحة كما دمرت فيه معظم المدرعات المصرية والاسلحة الثقيلة وجلس المعتدي لينتظر عبد الناصر لتوقيع عريضة الاستسلام وقال أن الجيش المصري لن تقوم له قائمة قبل ٢٠ عامًا! وحينها كلف عبد الناصر رجل المهمات المستحيلة الفريق محمد فوزي يوم ١١ يونيو ١٩٦٧ بتحمل المسئولية العسكرية وإعادة بناء الجيش المصري الكامل من الصفر!! مهمة ربما لا يمكن أن يقبلها الا مجازف أو مجنون أو شخص بمواصفات هذا الرجل الصارم.
……….
كان محمد فوزي يكبر عبد الناصر بسنتين وكان من الضباط الأحرار ولكونه في سلاح المدفعية ولشخصيته القوية أبعدوه عنهم وأوكلوا له مهمة إعداد النشئ رئيسًا للكلية الحربية. وكان الفريق فوزي يلقب بالبعبع في الكلية الحربية لدرجة أن الطلاب كانوا يهابون المرور أمام مكتبه حتى وهو خالي! فهو رجل الضبط والربط القاسي والعادل. وحين أراد عبد الناصر إعادة توازن القوى للجيش قبل ١٩٦٧ لم يجد غير فوزي ليعينه رئيسًا للأركان لكن المشير عامر الذي كان يكره فوزى من أعماق قلبه ويخافه في نفس الوقت نجح مع شلته في الجيش من شل دوره تمامًا لدرجة أنه طلب اكثر من مرة الاستقاله ليعود بضغط من عبد الناصر. بعد الهزيمة المرة قبل فوزي مهمة وزير الحربية بتجرد تام لحبه الشديد لبلده وإيمانه التام بقدرة أبنائها العظام على تحقيق المستحيل.
…………
قام فوزي فورًا بتغيير جميع قيادات الجيش ووضَعَ في مساء نفس اليوم بخط يده خطة بناء الجيش من الصفر في ١٠ صفحات. وكانت الخطوة الأولي عنده -وهى الأهم- ترتكز على بناء الجندي المقاتل ورفع معنوياته وهو ما ظهر واضحًا في معارك الثأر والإنتقام أثناء حرب الاستنزاف المجيدة. وفي خلال أسابيع معدودة قامت القوات البرية بصد الهجوم على رأس العش ثم دمرت المدمرة إيلات وتصيدت جنود العدو كما شرحت في الجزء الأول وتصاعدت الوتيرة تباعًا ليصل معدل القتلي الى ثمانية قتلى يوميًا على مدار ٣ سنوات وشهرين!! عدد من القتلى لم يحلم العدو بعد انتصاره أن يتكبده ولو في أظلم كوابيسه. أعاد الفريق فوزي تسليح وتدريب الجيش بالكامل حتى عادت له السيادة العسكرية في ١٩٧٠ وقبل وفاة عبد الناصر. وكان أسبوع تساقط الفانتوم بعد إكتمال حائط الصواريخ إيذانًا بفقد العدو تمامًا للسيطرة الجوية التي تميز بها يومًا ما. وحينما تيقن العدو أن الحرب القادمة خاسرة لا محالة إذا دخل فيها وأنها قد تهدد وجوده طلب في ٥ يونيو عن طريق وزير خارجية أمريكا وليام روجرز وقف إطلاق النار ووافقت مصر في ٨ أغسطس ١٩٧٠ على وقف إطلاق النار مع مهلة “٩٠ يومًا” فقط للتفاوض على الإنسحاب التام والكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة في ١٩٦٧ تطبيقًا للقرار ٢٤٢ للأمم المتحدة.
………
قال عبد الناصر لفوزي إن إحتمال الوصول لإتفاق مع هذا العدو المراوغ لا يتعدي ١٪ وعليه الاستمرار في إستعداده ليوم الحسم وإستغلال الهدنة لتحريك حائط الصواريخ الى الشط الشرقي للقناة لزيادة مدى تغطيته لقوات العبور. واستعدادًا للحرب وفي مايو ١٩٦٩ إخترع مهندس مصري فكرة استخدام خراطيم الماء الرشاش لفتح الثغرات بالساتر الترابي على الضفة الشرقية لقناة السويس مستفيداً من عمله قبلها في السد العالى. وفي أغسطس من نفس العام اخترع ضابط مصري السلم الليف الذي صعد عليه جنودنا للساتر الترابى على الضفة الشرقية للقناة في العبور.
………
في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر قبل وفاته باسابيع ثلاثة وقّع عبدالناصر على خطط العبور “جرانيت ١” و “جرانيت ٢”. وكان فوزي قد وضع الخطتين لتحرير سيناء بالقوة في مرحلتين الأولي العبور والسيطرة على المضايق والثانية العودة الى حدود بلدنا في ٤ يونيو. وحدد لحرب الكرامة ربيع ١٩٧١ ولكن وفاة عبد الناصر ثم تولي المرحوم السادات الحكم أجل الحرب والتي لم يكن السادات متحمسًا لها وكان يعتقد واهمًا أن الدبلوماسية ستؤدي للحل السلمي لتولد في أول عهده حالة اللاسلم واللا حرب! بل وقبض السادات على الفريق فوزي في ١٥ مايو ١٩٧١ عندما إعترض عليه قبلها بأيام رافضًا لفكرة تأجيل الحرب حتى لا يختل التوازن لصالح العدو مرة ثانية. وقبلها واجهه الفريق فوزي السادات -كما ذكر في مذكراته- بمعرفة المخابرات بإتصالات السادات مع المخابرات الأمريكية وسلطات العدو للتفاوض سرًا لاسترداد الأرض والحل السلمي.
……..
كان الفريق فوزي يرفض إعتقاد السادات الراسخ بإمكانية حيادية أمريكا في الصراع وأنه يمكن أن نستعيد الأراضي المغتصبة بلا حرب وكان يرى أن فتح قناة السويس للملاحة قبل الحرب ترسيخ كامل لوضع العدو في سيناء ووأد لفكرة العبور شرقًا. كان الفريق محمد فوزي عسكريًا حازمًا لا يعرف الجبن أو الهزار أو حتى الضحك وكان واثقًا في نفسه وفي قدرة رجاله الذين علمهم ودربهم وكان يؤمن أن ما أخذ بالقوة لن يسترد أبدًا إلا بالقوة. كان يعرف ويعي تمامًا ما يقول بخبرة القائد ولا يأبه لغطرسة العدو بعد أن نجح في حرب الاستنزاف من وضع وجهه في الوحل حين أمسى لا يعرف من أين يأتيه الموت صباحًا أم ليلًا ومن شماله أم من فوق رأسه.
……..
كان محمد فوزي وقائد أركانه الفريق عبد المنعم رياض رجلان لم تعرف العسكرية الحقة مثلهما. حاكمه السادات للأسف محاكمة سياسية هزلية وقف فيها جميع قواد الجيش في صفه ولكن حُكِم عليه ظلمًا رغم ذلك بالسجن المؤبد والذي خفف الى ١٥ سنة ووضعه السادات في سجن أبو زعبل ثم بعدها في سجن القلعة الكئيب لشهور قبل الإفراج الصحي عنه. لم يهز السجن شعرة من رأس الرجل الذي حارب في سبيل مصر في ثلاثة حروب ٤٨، ٥٦ و٦٧ وكاد أن يحرر أرضها في ١٩٧١ لو أتيحت له الفرصة. قامت الحرب في ١٩٧٣ بعد أن ضغط الجيش والشعب على السادات طوال عامين للقيام بالحرب والذي قال أن ١٩٧١ هو عام الحسم ليغير رأيه بعد ذلك في ١٣ يناير ١٩٧٢ ويقول أن الموقف يحيطه الضباب! ولا ننسى جميعًا مظاهرات الطلاب في ١٥ يناير ١٩٧٢ التي شارك معظمنا فيها للمطالبة بالحرب وانهاء حالة اللاسلم واللا حرب. كان الشهيد السادات رحمه الله صاحب قرار الحرب الشجاع ولكن للحق والتاريخ فقد نُفِذت خطته جرانيت بحزافيرها في ١٩٧٣ ومسح السادات دور محمد فوزي في الاعداد لها ودور سعد الدين الشاذلي فيما بعد وهو ما نريد أن نذكر به الأجيال التى لم تحضر اكتوبر . بل وحدث ما حذر منه الفريق فوزي مرارًا من إمكانية حدوث الثغرة عند منطقة الدفرسوار والتي درب لها في عهده ثلاثة فرق من المدرعات تدريبًا شاقًا ليصدوها إن حدثت. حسب الفريق فوزي كل شئ بدقة شديدة وبمهارة نادرة ولولا الجيش الذي بناه والتسليح الذي قام به والإعداد المعنوي المكثف له وحائط الصواريخ الذي بناه وحظائر الطائرات والخطة المحكمة جرانيت ما كان لنا أن ننتصر في ١٩٧٣ وإن كانت قد تأخرت أكثر من عامين.
……..
لم يكرم الفريق محمد فوزي بكل تأكيد في عهد السادات ولم يكرمه أيضًا في عهد خلفه ولم يكرمه بعد وفاته سوى الرئيس السيسي فى أول إحتفال لاكتوبر في عصره. ولكننا وحتى الآن لم نكرم كشعب هذا الرجل العظيم بما يليق بجلال وعظمة ما قام به من أجل مصر في أحلك أوقاتها، وكنت أتمنى أن يطلق اسمه على أحد الميادين أوالمحاور الرئيسية الجديدة وأن يقام له تمثال مثل الذي أقيم لرئيس اركانه الفريق عبد المنعم رياض. سجل الفريق فوزي في ١٩٩٦ وقبل وفاته ثمان حلقات ذكر فيها كل ما عنده بمنتهى الصدق والصراحة والجرأة على قول الحق له أو علية وتستحق منا السماع والتعلم كيف يكون حب مصر بتجرد وكيف تكون العسكرية المصرية في أسمى صورها. رحمه الله قائدًا عظيمًا من أفضل ما أنجبت مصر..!!
د. أسامة حمدي
الى اللقاء في المقال الثالث
(شارك مع كل من يحب أن يقرأ عن تاريخ مصر وخاصة الشباب)
تم نسخ الرابط بنجاح!