
المقال الثالث
في سلسلة الطريق الى اكتوبر: شهادة للتاريخ والذاكرة الممسوحة…!!!
“اليوم الذي تحول فيه المصريون ١٨٠ درجة في لحظات”!
حين تنظر إلى صورك القديمة، لا تملك أن تبعد الذكريات التي تقفز من فورها بلا استئذان لتعيدك إلى يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، فترى الصورة بكل تفاصيلها وأحداثها، فتشع البهجة في نفسك، والحسرة في قلبك على يوم جميل لن يعود. وهذه الصورة تختلف عن كل ما رأيت واحتفظت، فلم تسجلها الكاميرات، ولم تتوقعها، ولم تنتظرها، ولم تألفها، ولكن ذاكرتي سجلتها بجميع تفاصيلها كشريط للفيديو، وطبعتها في مخيلتي، ولم تمحها السنون، فلم تبهت؛ لأنها غيرت -إلى الأبد- حياتي ومفهومي عن أهم خصائص شعبنا المصري العظيم؛ لذا قررت أن تشاهدوها معي، فعادة ما نتذكر الأحداث وننسى التفاصيل. ولسعادتي الغامرة بهذه الصورة التى كنت محظوظًا أن عايشت تفاصيلها، أريد لكل شباب مصر اليوم أن يروها بالكلمات كما رأيناها بأعيننا بكل صدق، ليعرفوا حقيقتنا وقدرتنا.
يومئذٍ كنت عائدًا إلى منزلي من مدرسة المنصورة الثانوية العسكرية وأنا صائم. كان يومًا مرهقًا كالعادة، تدربنا فيه على الزحف على بطوننا، والتصويب بالبنادق، وعادة ما كنت أمُرّ من شارع الثانوية الذي به مدرستي (المنصورة الثانوية العسكرية) إلى شارع الصنايع في طريقي إلى شارع بسيم، وكان عند التقاطع محطة للأتوبيس “النصر” الأحمر الشهير، وحين اقتربت من المحطة سمعت مذياعًا عالي الصوت من أحد محال شارع الثانوية، وأتذكر تمامًا أنه كان محل كهربائي، فتوقفت وأردفت السمع فإذا بالمذياع يذيع ما سُميَ “البيان الأول للقوات المسلحة”، ويبدو أنه قد أُذيع من قبل؛ لذا فقد رفع صاحب المحل صوت المذياع عن آخره في الإعادة ليسمع الجميع. والبيان لم يكن مفهومًا لي على الإطلاق، ولم يكن معتادًا أن نسمع مثل هذه البيانات في هذه الأيام، فهو يقول “قامت قوات العدو بالهجوم علينا في منطقة الزعفران والسخنة، وزوارقه تهاجم الشاطئ الغربي للقناة، وقد قامت قواتنا المسلحة برد الهجوم”. بيان مقتضب وغامض، ولم يذكر حتى عبور قواتنا، أو أى شيء، ربما من باب الحيطة حتى لا تتكرر مأساة بيانات ٦٧ البائسة، التي أفقدتنا جميعًا الثقة تمامًا ببيانات الجيش حينذاك. أسرعت الخطى إلى المنزل القريب، وفتحت الراديو الترانزستور “التوشيبا الياباني”، وبحثت عن محطة مونت كارلو، التي كانت -مع الأسف- مصدرنا الدائم للمعلومات الصحيحة؛ لأعرف منها أن جيشنا المصري هو الذي هاجم منذ دقائق الشط الشرقي للقناة! عدت سريعًا الى إذاعة البرنامج العام لأستمع إلى فاصل طويل من الأغاني الوطنية، وهو ما لم يكن أيضًا معتادًا في وقتها في حالة اللا سِلم واللا حرب التي كنا نعيشها بملل شديد. وتوقفت الموسيقى فجأة لتذيع البيان الثاني، ثم الثالث، وكلاهما يتحدث بالغموض نفسه عن هجوم العدو، ونجاحنا في صد العدوان، واشتباك طائراتنا مع طيران العدو، وقذف مواقعه ردًّا على الاعتداء الغادر! كان البيان الرابع حوالي الساعة الرابعة ظهرًا، وكان أكثر وضوحًا ليعلن لأول مرة “عبور قواتنا قناة السويس” في عدة مواقع، ومهاجمة خط بارليف المنيع! لم أصدق ما سمعت، فقد كنا جميعًا في أشد الشوق واللهفة إلى هذه الحرب لأخذ ثأرنا من العدو المغرور، الذي انتزع أرضنا، وأذل كرامتنا ست سنوات، مرت علينا كالدهر، حتى يئس الكثيرون من عودتها ثانية. كنت يومئذٍ في الثانوية العامة، وقد دربتنا المدرسة العسكرية على حمل السلاح واستخدامه للدفاع عن الوطن، وها نحن على مشارف الجامعة ولم نحارب. في يناير من العام الماضي، ثار طلاب الجامعات وقاموا بالمظاهرات العارمة مطالبين بالحرب، فقد كنا نكره ما كنا عليه، وكان السادات حينذاك في نظرنا رئيسًا سخيفًا وضعيفًا، بل لم يكن مقنعًا لأحد منا، وكنا نراه قدرنا السيئ الذي بعثه الله ليملأ عباءة عبد الناصر فغرق فيها! كنا نكره مماطلته، وقوله المتكرر بأن الموقف غامض، ويحيطه الضباب! أى ضباب ونحن نتعطش إلى الثأر منذ أواخر ١٩٧٠؟
فتحنا التليفزيون وكان يبدأ إرساله وقتئذٍ في الخامسة مساءً، لنرى أول فيديوهات العبور المبهجة التي وجدناها تعاد مرات ومرات على موسيقى وأغانٍ وطنية لعبد الوهاب، وأم كلثوم، والمجموعة، ثم توالت البيانات من قيادة القوات المسلحة. خرجت إلى الشارع لشراء بعض الاحتياجات المنزلية، فهالني المنظر؛ جميع الراديوهات مفتوحة على أعلى صوتها وكأنها تسلمك في طريقك من راديو إلى آخر. وحين يذاع بيان -حتى لو كان معادًا- تتوقف الحركة، ويجري الجميع إلى أقرب راديو لسماع البيان وعلى وجوههم الفرح والسعادة. كنت أحس بنشوة غريبة وسط هذه المجموعات، فكلنا أصبحنا فجأة أسرة واحدة تجتمع معًا، ويعرف بعضها بعضًا دون سابق معرفة. كنا نريد الحرب مهما كان ثمنها. كنا نحس أننا نثأر لعرضنا الذي انتُهك في غفلة وبعنف. كان عبق الانتصار في الجو تحسه وكأن الكون قد غيّر حاله وتحول في لحظة إلى جنة ما لها مثيل. تناسى الناس خلافاتهم فأصبحنا كتلة واحدة يحدوها الأمل بدوام النجاح لما نسمعه. أمس كانت سينما عدن تعرض فيلمًا هابطًا، وقد اعتدنا في هذه الفترة أفلام العُري والابتذال، التى كانت تناسب المعنويات الهابطة منذ وقف إطلاق النار قبل موت عبد الناصر بأسابيع. كنا لا نعرف إلى أين نسير، والى أي مستنقع يحملنا القدر. كانت أحاسيسنا مزيجًا عجيبًا من الحزن والغضب (وفقدان الأمل)، فإذا بِنا نفيق على نغم عذب دقته خطوات جنودنا وهي تعبر القناة قائلة “الله أكبر”. لقد كان هذا الهتاف من وحي اللحظة، ولم يحفظه الجنود، ولم يدربهم عليه أحد. في اليوم الثاني غنت المجموعة لحنًا شجيًا ما زال في أذني حتى اليوم “بِسم الله.. الله أكبر باسم الله.. باسم الله”. كلمات عبقرية، ولحن قوي أصبحت حناجرنا تردده على نحو غير شعوري في كل لحظة يُذاع فيها على الراديو، وحتى لو توقف تستمر عقولنا في ترديده إلى أن يُذاع مرة أخرى. توقفت الجريمة تمامًا في جميع أنحاء مصر.
تحول الشعب فجأة إلى شعب نادم على ذنوبه وقوله وفعله، ويرجو عنها التطهر والغفران. الشباب الذي ثار على حكومته بالأمس يتمنى أن يحارب اليوم، بل يحسد كل من له شرف القتال والاستشهاد. ورئيس الأمس الذي كان محل سخريتنا جميعًا أصبح قائدًا وبطلًا عظيمًا يشار إليه بالبنان. كنا نسخر من طريقته في الكلام، فإذا بنا نعشقها وكأنها طرب أصيل. خجلنا حتى من شعورنا الطويلة، وقمصاننا (المحزقة) والملوّنة، وتمنينا أن نكون بأناقة كل جندي وضابط في ميدان المعركة. لم ينتصر الجيش (ولكن انتصر الشعب المصري بكامله). أصبحنا جميعًا في الجهادين الأكبر والأصغر في آن واحد. كنت أعيب على عادة الثأر في صعيدنا، فأصبحت منتشيًا بلذة مسح العار الذي دنسنا سنوات. اكتشفت أن جينات الثأر مزروعة في أنسجتنا. سهرنا الليل نستمع إلى بيانات الجيش التي توالت وهي تزف البشائر، وبينها الأغاني الوطنية التي تشعل جذوة الحماسة في أجسادنا فترتجف، وفي نفوسنا فتنتعش. أصبحت قلوبنا يعانق بعضها بعضًا، وأعيننا تعشق رؤية البسمة في وجوه كل مَن حولنا. أصبحنا فعلًا شعبًا آخر لا أقدر الآن على وصفه. لقد تحول الشعب بكامله -بلا مبالغة- ١٨٠ درجة كاملة. سهرت الليل وأنا أترقب البيانات خوفًا على جنودنا البواسل. لم أرغب في الذهاب إلى المدرسة حتى لا يفوتني بيان واحد، أو مشهد، أو أغنية. لقد عشنا أيامًا من الزهو عرَّفتنا معناه، ولحظات من الفخر والتباهي أسكرت عقولنا بأفضل ما تمنيناه. لقد عاش جيلي هذه الأيام العطرة التي قلما يجود الدهر بمثلها، فتمنيت أن يحس أولادنا بما أحسسنا به في هذه الأيام، ليعرفوا قيمة وقدرة حبيبتنا مصر حين تريد فتفعل، وحين تصمم فتنال مرادها، ولو بَعُدَ أو أخفاه الضباب!
د. أسامة حمدي
الى اللقاء في المقال الرابع
(شارك مع كل من يحب أن يقرأ عن تاريخ مصر وخاصة الشباب)
تم نسخ الرابط بنجاح!